من حين لآخر يتحدث أحدهم عن تغيير النشيد الوطني بصيغة يحاول من خلالها
إفهام الحكومة والمواطنين بأن النشيد الوطني الحالي لا يعبر عن العلاقة العاطفية
الوثيقة بين المواطنين والوطن،ويقترح نشيدا آخر أقدر في نظره على التعبير عن هذه
العلاقة،كأن هذا النشيد الذي اختارته حكومة الاستقلال من شعر الشيخ سيديا بَابَ بن
الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيديا الكبير المتوفى 1924 للميلاد أي قبل استقلال البلاد
بستة وثلاثين عاما سبب مباشر في وأد هذه العلاقة ،أو في أحسن الأحوال سبب في
غيابها
النشيد
الوطني شعار من شعارات الدولة المدنية ويجب أن يكون ترجمة لآمال وطموحات مواطني
الدولة ،البعض يركبه من عدة مفردات من قبيل تمجيد المقاومين الذين أدت مقاومتهم
إلى استقلال الدولة ،والتعبير بوضوح عن التعلق الشديد بالدولة حبا وحماية
واستعدادا للتضحية بالنفس والنفيس من أجلها ،وتختلف مفردات أناشيد الدول بحسب
أهمية هذا النشيد عند كل دولة ،ويمكن للباحث أن يطلع على ذلك ..
وحسب
رأيي فإن حكومة الاستقلال قد وفقت في اختيارها لهذا النشيد كما وفقت في اختيار
الأوقية اسما للعملة الوطنية ،واختيار الإسلام صفة للجمهورية فأمِنَتْ بذلك من
فتنة العنصرية والطائفية والتطرف الفكري والعقدي
إن
ادعائي بأن حكومة الاستقلال قد وفقت في هذا النشيد يستند إلى :
ـ
الطبيعة الإسلامية لهذا النشيد ،والإسلام هو الذي يحمي ويوجه ويؤطر بحق وجدارة
إنسانية الإنسان التي أقصد بها رقيه العقلي والأدبي والخلقي
ـ إن هذا
النشيد يرتفع بأهله إلى العالمية والكونية وأقصد بها الإيمان بالأخوة الإنسانية
بما تُشعر به من وحدة الجنس البشري وتداخل وتشابك المصالح بين الناس جميعا على وجه
الأرض ،وهنا يتأصل في لا شعور الإنسان وفي لا وعيه الحب الحقيقي لوطنه الذي يستمد
قوته ودوامه وزخمه من حبه الحقيقي للعالم من حوله في علاقة تلازمية متفاعلة
ـ هذا
النشيد الوطني دعوة إلى الله ،ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله .. ،وهو دعوة إلى
صرف النظر عن التعلق بالبدع وفي تجنب البدع من المحامد ما لا يحصيه المحصون،ومن
أهمها بعد إرضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم :صرف الطبيعة الفضولية للفكر من
معالجة ما هو صحيح أصلا ألا وهو هذا الإسلام ،إلى معالجة ما يحتاج إلى علاج فعال
وهو إنقاذ البلد من التخلف ودواعيه
ـ اختيار
النشيد الوطني من شعر الشيخ سيديا بَابَ رحمه الله تعالى نحسبه ـ ولا نزكي أحدا
على الله ـ بشارة لتقبل الله عز وجل منه حيث حفظه الصغير والكبير وردده المدني
والعسكري واطلع عليه كثير من الناس ،فهو حين دعا إلى الله وإلى التمسك بالمحجة
البيضاء التي تركنا عليها سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد
مزاحمة أحد على عرض من عرض الدنيا ،ولا منافسا لكائن من يكون فقد أغناه الله عز وجل
عن ذلك كله بكرمه وفضله ومَنِّه سبحانه وتعالى
لقد جاء
الاستعمار الفرنسي إلى هذه البلاد بعد أن اطلع من خلال مخبريه على أوضاعها العامة فتوجه
قادة الاستعمار إلى الشيخ سيديا بَابَ باعتبار ما تأكد لديهم من معلومات عن أهمية
مركزه العلمي والسياسي والاجتماعي ،ورأى هو رحمه الله تعالى بعد بذل الوسع في أنجع
الوسائل الشرعية لمواجهة الاستعمار أن يقبل بمهادنتهم بشروط كثيرة موثقة تخدم
جميعا الدين والوطن والمواطن ،واجتهد رحمه الله تعالى في تأمين الناس ودعوتهم إلى
العلم وتمتين علاقتهم بعلماء زمانه الذين حثهم على نشر علوم الإسلام بين الناس
حماية لهم من خطر فقدان الهوية التي يعانيها اليوم معظم الشعوب التي احتلها
المستعمرون ولم يكن من بينها من وفقه الله تعالى كما وفق الشيخ سيديا بَابَ
نعم قد
يقول قائل إن الطرف الذي دخل في معارك قتالية مع المستعمر هو من له الحق في أن
يكون النشيد الوطني من صياغته ،وهو صادق في ذلك لو أن الطرف الذي هادن لم تكن مهادنته
أيضا سببا مباشرا وأكيدا بعد فضل الله سبحانه وتعالى في الوصول بهذه البلاد
الصحراوية المترامية إلى أن تكون دولة مدنية
وعلى كل
حال فإنني أتمنى أن تكون الدعوات بتغيير هذا النشيد صادرة من قلوب مليئة بحب الوطن
والمواطنين سليمة من أمراض القلوب المعروفة وخاصة منها مرض رؤية الفضل على الغير
ولا أستغرب
من هؤلاء المطالبين بالتغيير أن يواصلوا مطالبتهم بتغيير اسم موريتانيا إذا هم
نجحوا في تغيير النشيد الوطني
قد أحمل
هذه الدعوة إلى تغيير النشيد الوطني من مضمون ديني إلى مضمون طيني ومن طبيعة علوية
سماوية عامة إلى طبيعة سفلية أرضية خاصة ،على عدم نزاهة الداعين ما لم يضيفوا
إليها الدعوة إلى معالجة انفصام شخصية المواطن وهي أهم وأولى وآكد،ومن تجليات هذا
الانفصام تصارع اللغتين العربية والفرنسية في الدولة ،والمحاربة المنافقة والمشوهة
للرق،والأحداث العرقية ،والقبيلة والدولة،،والثروات العامة ،وبعض المسلكيات
المنافية بوضوح للدين إلى غير ذلك
وعموما
فالوطن يستحق من كل منا ليس فقط أن ينشئ له نشيدا وإنما أن يبذل جهده صادقا غير
كاذب من أجل أن يتجاوز به كافة التحديات التي تشكل حاجزا منيعا يعيق تطوره ورقيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتابات إبراهيم بن موسى
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتابات إبراهيم بن موسى